العرض في الرئيسةفضاء حر

نهج التفكيك وإعاقة مسار السلام في اليمن

يمنات

عبد الباري طاهر

بعد مضي أكثر من ثلاثة أعوام، لا تزال الحرب في اليمن وعليها في حالة مد وجزر. أوهام نهاية الحرب – عبر الحسم العسكري – ما تزال تعشش في أذهان تجار الحروب، والممولين، وتجار السلاح. الانتصارات التكتيكية هنا وهناك، تقوي إغراء استمرار تصعيد الحرب. ربما تكون معركة الساحل الآن، هي الأكثر إغواءً وإغراءً؛ فغضب الناس، والمكنة الحديثة، والآليات، والإمكانات، والهيمنة الكلية على الأجواء، تساعد على تحقيق انتصارات سريعة، عكس المعارك في الجبهة الشرقية والشمالية.

الحرب الأهلية لا نهاية لها إلا بمصالحة شاملة مجتمعية ووطنية، أما الحرب الخارجية فمآلها البوار. فالغزو الروماني قبل ميلاد السيد المسيح بعدة عقود، كانت غزوته من أقوى الغزوات التي يخوضها الرومان، وهي أول غزوة برية على اليمن، وقد فشلت فشلاً ذريعاً قبل أن تصل إلى مأرب. وكتب التاريخ زاخرة بحقائق أن اليمن مقبرة الغزاة: فرساً وروماناً وأحباشاً وبرتغاليين وأتراكاً وبريطانيين، والقائمة تطول.

قد يصل الغزاة إلى مران أو حيدان، وقد يجتاحون الحديدة، ولكن ذلك لن يحسم المعركة. إنها جولات ثأر قبلية ومناطقية تتداخل وتتمازج وتتماهى في الحرب الأهلية ومعها. الاغترار بالقوة والمال قاتل، وعدم قراءة تاريخ الشعوب وتجاربها جهل مطبق.

في التاريخ المعاصر، وتحديداً في العام 68، تمكن الجيش اليمني، والأمن، والمقاومة الشعبية من دحر الملكية عن أبواب صنعاء، وكان الانكسار كبيراً في القوات الملكية التي كانت داناتها تصل إلى كل أحياء صنعاء، وتحيط قواتها بالعاصمة إحاطة السوار بالمعصم، وكانت الهزيمة للسعوديين والبريطانيين والأمريكان. فقد كان هناك دعم أمريكي قوي، ومرتزقة بريطانيون وفرنسيون وبلجيكون: بوب دينار، وديفيد سمايلي، وبروس كوند، وغيرهم، ولكن الطرف «المجمهر» والذي كان محايداً وموعوداً، وينتظر نتائج المعركة، أو بالأحرى الثورة المضادة، تحرك من الداخل لفرض الحل السلمي الذي يريد، واستعادة وحدة شيوخ الضمان «المجمهرين»، و«المميلكين»، وفتح الباب واسعاً للشقيقة الكبرى: مصطلح هذه القوى التقليدية حينها.

فجأة سقطت صعدة، وربما من دون قتال. سقوط صعدة بتواطؤ بين «المجمهرين» و«المميلكين» فتح الباب أمام المصالحة الوطنية، والحج إلى السعودية، لا لإيقاف الحرب في اليمن نهائياً، وإنما لتحويل المعركة من معركة ضد القوى الرجعية، وضد التدخل السعودي إلى حرب ضد القوى القومية واليسارية، وضد شباب سبتمبر 62 وأكتوبر 63. وبدأت المعركة في الجيش والأمن والأحزاب شبه السرية والمقاومة الشعبية، وبدأت حروب الوسطى، وحربا 72 و78 بين الشمال والجنوب، وصولاً إلى حرب 94 وما تلاها من حروب كاثرة، وبالأخص حروب صعدة الستة.

الحروب الأهلية تمتد وترتد، ولكنها لا تنتهي إلا بمصالحة شاملة تقطع الطريق على التدخل الأجنبي، وفي اليمن تحديداً، السعودي – الإيراني.

ما لم تحققه ملايين الدولارات، والخبراء الأجانب، وجيوش المرتزقة في أكثر من جبهة حققته قوى الثورة المضادة بإسقاط صعدة بيد الملكيين، وبدأ التفاوض لتحقيق استعادة وحدة كبار شيوخ الضمان والقوى التقليدية.

القوى التي تتقاتل اليوم في اليمن جلها خارجة من معطف صالح. وإذا ما جرى تفكيك هذه القوى الضالعة في الحرب، فكلها تقليدية، وتتقاتل على الماضي. قضية كل الأطراف الانفراد بالحكم، والاستقواء بالخارج، وعدم احترام إرادة الشعب؛ لأن سندهم الخارج بالأساس.

السعودية- بكل تأكيد – ضد أنصار الله، ولكنها بمستوى معين محتاجة إلى وجودهم في مواجهة الإصلاح، وهي لا تريد الإصلاح إلا لمواجهة أنصار الله؛ لإبعادهم عن الحدود، وعن إيران، وهي لا تريد للجميع أن ينتصر.

توازن الضعف هو الصيغة المثلى والمفضلة لاستمرار الصراع الدامي في اليمن، والأخطر أن تصبح اليمن أو توظف لصالح الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة العربية. فإيران والسعودية يتصارعان بأفق طائفي: سنة، وشيعة، وتوظف اليمن التي لا علاقة لها بهذا الصراع، وهو صراع نفوذ ومصالح بامتياز.

أطراف الحرب الأهلية في الشمال والجنوب يقف طموحها المحموم عند تخوم التفكيك، والانفراد بالسلطة هنا وهناك، وهذا هو المشترك الأبشع بينها وبين الأطراف الإقليمية. فالسعودية لا تريد نفوذ الإيرانيين على حدودها، ولكنها أيضاً تطمع في قضم المزيد من المناطق اليمنية وضمها إلى مملكتها، والاستيلاء على مناطق امتداد الربع الخالي، والسيطرة على القوى التي تمثل امتداد نفوذها.

تفكيك اليمن وتجزئتها، ووضع الكل في مواجهة الكل رغبة وإرادة مشتركة بين أكثر من طرف عربي وإقليمي ودولي. تشجيع الحرب الأهلية واستمرارها وتصاعدها، وتسليح المليشيات في غير منطقة، وخلق واقع مسلح في العديد من المحافظات ومساندتها ورفدها يهيئ البلد للتفكك، ويعلن لحرب الكل ضد الكل.

الحراك الجنوبي المسلح يدعو للانفصال مرتهناً للإمارات العربية، وهو لا يجد قبولاً على المستويين: القومي، والدولي، ولا سند له في الواقع. والإمارات موزعة الهوى بين محاولة استعادة النظام القديم، وبين تفكيك المفكك في جنوب الوطن، وخلق أحزمة أمنية هنا وهناك، ومليشيات ونخب مسلحة في غير منطقة، وهي لا تريد وجود الإصلاح، وهو القوة الأساسية في الحرب، ولا تريد الشرعية التي هي مبرر وجود التحالف العربي، وعينها على الموانئ والجزر أكثر من أي شيء آخر.

ربما كانت الحرب واستمرارها، والنزوع للتفكيك هو القاسم الأعظم والمشترك بين أطراف الحرب الداخلية والخارجية.

المأزق الكبير أن كل أطراف الحرب لا يمتلكون القدرة على حسم الصراع؛ فيلجؤون إلى مزيد من التدمير والتقتيل والنهب.

صعوبة التوافق على حل سياسي سببه انعدام الثقة بين أطراف الصراع. ومع استمرار الحرب تضعف الإرادة اليمنية المفككة والمتصارعة، ويفقد المتقاتلون اليمنيون القدرة على التحاور، ويرتهنون أكثر فأكثر لأطراف الصراع الإقليمي والدولي، ويصبحون مجرد أدوات في أيدي القوى الأخرى.

اليمن ليست أولوية في أجندة مجلس الأمن والأمم المتحدة، والاهتمام بها يتضاءل كلما طال أمد الصراع، وهو ما يراهن عليه أطراف الصراع، ولكل حساباته الخاصة.

من السخف قراءة الحرب من خلال البلاغات العسكرية، أو الأناشيد الحماسية، أو الزوامل، أو المباهلات والعنتريات، أو التحليلات الفاسدة والمضروبة والمحرضة على الحرب والعنف والكراهية. القراءة العميقة للحرب وآثارها ومآسيها تكون من خلال الضحايا، وما أكثرهم! من خلال تدمير بنية فقيرة ضعيفة ومتهالكة، وعدد من المعاقين، وملايين من المحرومين من مياه الشرب النقية، ولقمة الخبز الكفاف. من خلال الأوبئة الفتاكة التي انقرضت من العالم ومن اليمن، ثم عادت بقوة وانتشار فاجع كالكوليرا، وحمى الضنك، والملاريا، وعشرات الأوبئة.

لا بد من قراءة الحرب من خلال حرمان ستة ملايين من المرتبات، ومن حرمان الملايين من التعليم والتطبيب والأمن والسلام والاستقرار. من خلال المشردين والمهجرين الذين يصلون إلى الملايين من مختلف المناطق. من خلال المجاعة التي تطال الملايين، وهم الغالبية العظمى من الشعب. من خلال تدمير الكيان اليمني، وحرص أطراف الحرب على رفض بناء الدولة الديمقراطية المدنية التي ناضل شعبنا في سبيلها لأكثر من ثلثي قرن من الزمان.

حياة الشعب ومعاشه وبقاؤه – ككيان، وكشعب، وكجزء من أمة – مرتبطة بوقف الحرب، ونشدان السلام.

وقف الحرب والتصدي لجلاوزتها وتجارها، وللتدخل الإقليمي والدولي المساند للحرب هو الحرف الأول في أبجدية كفاح المقاومة الوطنية. واليمن والأمة كلها تختزن طاقات هائلة وتجارب عظيمة في مقارعة تجار الحروب ودعاتها.

الخطيئة الكبرى والخلل الحقيقي أن يوكل الأمر لرؤوس الفتنة، تجار الحروب، وهم غالبية من حكم طوال الثلاثة والثلاثين عاماً، وأنصار الله والحراك المسلح أطراف في الحرب.

الحرب تُغَيَّب القوى السياسية، والقوى المدنية، ونقابات الرأي، والشخصيات العامة الرافضة للحرب، وهم الشهود الحقيقيون على جرائم الحرب وضد الإنسانية، وهم بناة السلام، ودعاة الحرية والديمقراطية، والناشدون بناء كيان الدولة الاتحادية التي أكدت عليها مخرجات الحوار، وقبلها وثيقة العهد والاتفاق، والقرارات الأممية، ومبادرة التعاون الخليجي.

أن يعلق الأمر كله على قرار يأتي من هنا أو هناك، ولا يضعه اليمنييون، أو على الأقل يشاركون في صنعه، هو مصدر خلل.

المستقلون، والشباب، والمرأة، وقوى المجتمع المدني مدعوون لصنع حراك جديد، والجهر بالسلام، ورفض الحروب وصناعها، والتنادي لبناء حوار وطني شامل، ومصالحة وطنية ومجتمعية لا تقصي أحداً، ولا تلغي إرادة الشعب – جل الشعب – في بناء كيان وطني اتحادي وديمقراطي يتسع للجميع، ولا يستثني أحداً. ومهمة المبعوث الأممي، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن لا بد وأن تجتاز الخطوط الحمراء التي يضعها دخان الحرب في كل الجبهات.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى